الفقية والسلطان (2/2) - جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين (العثمانية والصفوية - القاجارية)
3- التجربة الصفوية - القاجارية
ثلاثة عوامل أدت دوراً رئيسياً في تاريخ إيران: العامل الجغرافي، والمؤسسة الملكية، والدين. طوال تاريخ إيران كانت العلاقة بين الدين والسياسة بارزة دائماً، فالدين كحليف وحام للسلطة أو حتي علي العكس معارض وخصم كان دائماً متواجداً إما كدعامة أو كأداة إنقلاب. في العهد الساساني كانت الزادشتية الإطار المؤسسي الحافظ للنظام الملكي الاستبدادي وترتيب المجتمع الطبقي وقيمه القائمة علي التمايزات الاجتماعية الحادة، وانقسمت المؤسسة الدينية إلي مراتب وأدوار وفقاً لوظائف الكهنة. كان للروحانيون التفوق الكامل في جميع الشؤون الاجتماعية وكانوا ينقسمون إلي ثلاثة طبقات: "الموابدة" ورئيسها "موبد الموابدة" وهو الشخص الروحاني الأول للدولة، وكانت له صلاحيات واسعة واختيارت غير محدودة، وطبقة "الهرابدة" الموكل إليهم وظائف التعليم والتربية، وطبقة "أزربدان" وهم سدنة وخدمة معابد النيران وموقوفاتها ومديري المراسم الدينية والصلوات والأفراح.
أتخذ النظام الملكي الزرادشتية دين رسمي للدولة وكان نظاماً مستبداً قائماً علي نظرية الحكم بالحق الإلهي، فقد كان الساسانيون يعتبرون أنفسهم من عنصر سماوي، وأنهم مظاهر الله في الأرض ولم يكونوا يرضون من أمتهم بأقل من السجود خضوعاً لهم. أدت هذة الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية إلي عزلة الطبقات الحاكمة عن الشعب، وقد كانت هذة العزلة عاملاً أساسياً في تحول عامة الناس إلي الإسلام بصورة تدريجية. أستغرقت عملية دخول الإسلام إلي إيران قروناً من الزمن حتي القرن الخامس الهجري وكان ذلك بفضل دعاة الصوفية.
منذ الفتح العربي إلي ظهور الصفوين مرت إيران بثلاث مراحل: المرحلة الأولي مرحلة الخلافة الأموية وبداية الخلافة العباسية التي تميزت بالهيمنة العربية أولاً ثم وصولاً إلي اعتماد العباسيين علي موالي إيران في قتال الأمويين وانتصار الدولة العباسية علي يد قائد إيراني هو أبو مسلم الخراساني. المرحلة الثانية منذ القرن الثالث الهجري تمثلت في بروز الأسر المحلية الحاكمة وتقهقر سلطة الخلفاء مع ولادة ملحوطة للأدب الفارسي واللغة الفارسية وبتعددية مذاهب الشيعة الذين بقوا أقلية وظل السنة أغلبية، وقد رضت هذة الأسر بسلطنة الولايات والتحكم في الخلافة دون أن ينقلبوا علي العباسيين حتي لا يصطدموا بالأغلبية السنية. وكانت نهاية هذة الأسر مع الخلافة العباسية علي يد هولاكو المغولي. أما المرحلة الثالثة فد بدأت مع سيطرة المغول علي إيران وبغداد الذين لم يكن في إمكانهم تأسيس دولتهم دون اعتناق الإسلام فشجع بعضهم المذهب الشيعي. ظهرت بعد ذلك أسر عديدة تقاتلت فيما بينهم بعد موت تيمور لنك وحتي ظهور إسماعيل الصفوي في القرن العاشر الهجري.
في عام 905ﻫ/1501م أعلن إسماعيل الصفوي نفسه شاهاً علي إيران متطلعاً لنفوذ أكبر في العراق والأناضول مما جعله يصتدم بالدولة العثمانية. كانت القوة العثمانية شأنها شأن القوة الصفوية قد صدرت عن طريقة صوفية رافقت نشأتها العسكرية، فكان الانتماء الفقهي العثماني للحنفية علي مستوي الأسرة الحاكمة لا يمنع اختلاطاً فكرياً في الممارسة الدينية يجمع بين التصوف والتشيع الذي يبرز في النزعة نحو تقديس أئمة آل البيت وشيوع الفكرة المهدية. ففي عهد بايزيد العثماني كانت حالة التشيع منتشرة في الأناضول مما دفع إسماعيل الصفوي للإستفادة منها للثورة علي الدولة العثمانية، ولما قامت ثورة الأناضول عام 1511م (ثورة قولو) وقمعت قمعاً شديداً من الدولة العثمانية، بدأ الفرز المذهبي - الأيدولوجي يأخذ مداه علي مستوي السلطتين. ففي الدولة العثمانية بدأ الفقة السياسي السني يبرر لسلطنة الأمر الواقع ولو كانت جائرة وللبيعة ولو كانت قهرية، علي الجانب الصفوي كانت أهداف الأسرة الحاكمة تتلخص في اقامة دولة مركزية قوية توحد الداخل وتقاوم الخارج. ومن أجل تحقيق هذا كان لابد من اعتماد النظام الملكي المطلق ومأسسة دين للدولة ومذهبها فكان اختيار المذهب الشيعي يرجع إلي نسب الأسرة الصفوة للإمام الكاظم (إذا صحت الرواية)، ونزعتها الإمامية كطريقة صوفية متشيعة، والبحث عن هوية ذاتية إيرانية تتأكد عبر التمايز بواسطة المذهب الشيعي.
استعانت الدولة الصفوية بالفقهاء لنشر المذهب الشيعي فبدأ يروز دور الفقهاء مثل نور الدين الكركي و محمد الباقر المجلسي وبهاء الدين العاملي وصدر الدين الشيرازي. كما كان الحال في الدولة العثمانية، ساد في المرحلة الصفوية احتضان الدولة بأجهزتها ومؤسساتها لطبقة واسعة من علماء الإمامية وتشكل نوع من مؤسسسة دينية علي رأسها الصدر (صدر الصدور) الذي كان يشرف علي الشؤون والمؤسسات الدينية، وكان يمثله في المدن الكبري شيوخ الإسلام الذين كانوا يشرفون بصورة مباشرة علي القضاء.
انتشرت السيطرة الغربية والأجنبية والمطامع الروسية علي إيران واقتصادها المحلي، فقد كانت روسيا القيصرية تطمح بالإستيلاء علي أقسام من الهضبة الإيرانية، وكانت بريطانيا والدول الغربية تسعي للحصول علي الامتيازات الواسعة في الاستثمار والثروات والاقتصاد. ولم يكن شاهات القاجار مؤهلين أو مستعدين بسبب تراكم الديون وتيعيتهم للسياسات الأجنبية وضعف أجهزة الدولة وجيشها لصد أي هجوم روسي أو مقاومة تغلغلاً اقتصادياً غربياً. وقد أتاح هذا الضعف لعلماء النجف أن يقوموا بالدور البديل في هذا المجال. حاولت الأسرة القاجارية علي غرار سالفتها الصفوية أن تحتوي طبقة العلماء في إطار علاقة مؤسسية تابعة كما حاولت أن تتقرب من بعض العلماء عن طريق التزاوج والمصاهرة. لكن هذا السعي لم ينجح في استتباع العلماء كلياً نتيجة تمكن الإتجاة الأصولي في الففة الإمامي أن ينتصر علي الإتجاة الإخباري الذي يحصر مهمة الفقية في نقل الخبر والحديث.
في ظل عجز الدولة أمام تفاقم السيطرة الغربية وتعاظم دور المجتهد الفقية في المجتمع، كانت العلاقة بين الفقية والسلطان تتشكل كجزء من علاقات المجتمع بالدولة، وكشكل من أشكال التعبير التاريخي التي قدمتها واقعات المرحلة التاريخية. فمواجهة السيطرة الأجنبية والتصدي للاحتلال واستيعاب مشكلات التجار والحرفيين الذين تضرروا من جراء الغزو الاقتصادي الغربي ومحاولة اصلاح مؤسسات الدولة والموقف من الغزو الروسي لمنطقة القفقاس والموقف من أمتياز التنباك والثورة الدستورية قضايا شكلت الجقول التي جري من خلالها الصراع الاجتماعي - السياسي. مضي الاقتصاد الإيراني إلي حافة الكارثة نتيجة الاستيراد الدائم والمتزايد للسلع الأجنبية الذي شجعته امتيازات أجنبية جمركية وهبت للدول الأوروبية، فدمرت الصناعات والحرف المحلية والمشروعات الاقتصادية ذات المردود والانتاجية ووضع كامل الاقتصاد تحت اشراف الرساميل والشركات الأجنبية. أدت الأزمة الاقتصادية والسياسية والتدخل الأجنبي إلي جانب سياسات القاجار التعسفية واستدانتهم من الخارج لتغطية تفقات بلاطهم الملكي ورحلاتهم الخارجية، إلي حركة واسعة من الإحتجاجات والسخط الشعبي المدعوم بالتأييد الديني إلي فرض دستوراً علي الشاه مظفر الدين في عام 1906 الذي توفي بعدها وأعقبه إبنه محمد علي شاه الذي ماطل في الاصلاحات فثار الشعب عليه وخلعه.
مع الحرب العالمية الأولي أصبحت إيران مسرحاً للصراعات الدولية ومعارك العساكر التركية والبريطانية والروسية ومجالاً لمشروعات الاقتسام وتأسيس مناطق النفوذ، ومع قيام الثورة البلشفية في روسيا يتبعها دولة استراكية سوفياتية في جيلان لا تلبث أن تزول. في خضم هذا الصراع والحوادث النتسارعة يقوم قائد قوات الكوزاك رضا خان بانقلاي عسكري (قوات الكوزاك كان سبق أن أسسها ناصر الدين شاه عام 1879م كحرس ملكي خاص). كانت مرحلة ما بعد الحرب تمهد لرضا خان في انشاء حكم عسكري دكتاتوري: فالدستور معلق وسلطة الحكومة غائبة وخزينة الدولة فارغة والبلاد مهددة بالمجاعة. لم تكن صيغة الجمهورية هي الصيغة التي يمهد لها تاريخ إيران الملكي، ولم تقدم التجربة الدستورية في ظروفها الصعبة وسنواتها القليلة نموذجاً لممارسة الديمقراطية أيضاً كان العلماء مختلفين في تقييم التجربة الدستورية بين مؤيد ومعارض، فلم يكن أمام بطل الانقلاب إلا السير في ركب الحكم الأسري الملكي في ثوب تحديثي. فأعلن نفسه شاهاً كأول ملك لحكم الأسرة البهلوية التي انتهت بالثورة الإيرانية في عام 1979م.
4- خاتمة
تشابهت الأطروحة العثمانبة (التركية) والصفوية – القاجارية (الإيرانية) كنتيجة للحالة الإسلامية العامة المنتشرة وقتها، فأتبع الفقهين السني والإمامي في الدولتين منهجية متشابهة سواء علي مستوي علاقة الفقية بالسلطان أو في إطار مقاومة الاستبداد السلطاني الفردي. انتهي الفكرين إلي استحضار منهجية فقهية واحدة لحل مشكلات العالم الإسلامي وقتها وهي مواجهة الاستبداد والخطر الأجنبي عن طريق ابراز مفهوم الشوري كأصل من اصول العمل الإسلامي. ففي حالة الضرورة التي استوجبت وجود سلطاناَ وحاكماً لا خليفة، وإن كان لا يحوز جمع شروط الإمام العادل والعالم في مذهب أهل السنة، أو شرط العصمة المستحيل توافره في زمن الغيبة في مذهب الإمامية، فإن سلطة الحاكم تحتاج لتقييد أو تحديد كي لا يستغلها ويتمادي في جوره إلي ما لا نهاية. وهكذا أصبح أهل الحل والعقد في البيعة الاختيارية عند رشيد رضا برلماناً أو مجلساً تمثيلياً للأمة، أو صيغة لمشاركة الأمة في حكم نفسها علي قاعدة الإجماع. أصبحت الصيغة التمثيلية عند حسين النائيني قوة بشرية عاصمة، تحل جزئياً محل القوة العاصمة الإلهية التي تتمثل في الإمام المعصوم.
وفقاً لهذين الاجتهادين، اللذين التقيا في موقف سياسي واحد معاصر آنذاك لحدث كبير في إيران والدولة العثمانية، نري الفكرين بوضوح في مراحلهم النهائية وقد تراجع مفهوم الخليفة الواحد للعالم الإسلامي الذي تستر به سلطان الضرورة وتقلص دور نائب الإمام في السلطنة، وأخليا المكان لإمكانية قيام نظام سياسي في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي يستطيع تأمين قدر من الحرية والمساواة والعدالة. ولما كانت هذة المبادئ التي توصلت لها تجربة الفكر الإنساني في تطوره الطبيعي وفقاً للفلسفة الوضعية الأوروبية هي المبادئ نفسها التي سنتها التعاليم القرآنية والسنة النبوية والسلف الصالح والأئمة المعصومين، فإن المدرسة الإسلامية الجديدة التي حرص علي تقديمها رشيد رضا وحسين النائيني، والتي عبرت عن تراكم تجارب الشعوب نتيجة ضعف وبطش الدولتين العثمانية والصفوية – القاجارية، تقدم الدستور والدولة الديمقراطية علي أنهم أصل إسلامي وبضاعة إسلامية وما الدولة الديمقراطية الأوروبية إلا ترجمة واقعية لتلك المبادئ.
كان مسار التجربتين التركية والإيرانية متزامناً، كما كان المخرج من نتائج ما بعد الحرب العالمية الأولي أيضاً متشابهاً، دكتاتورية عسكرية قومية تلبس في إيران لباس الملكية السلطانية وفي تركيا ثوب الجمهورية القومية. وبين التجربتين غرقت البلاد العربية في مشروعات الحماية والوصاية والانتداب والتجزئة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ( الفقيه والسلطان : جدلية الدين والسياسة فى تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية ) للدكتور وجيه كوثرانى .
من كتاب ( الفقيه والسلطان : جدلية الدين والسياسة فى تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية ) للدكتور وجيه كوثرانى .
Comments
Post a Comment