الفقية والسلطان (1/2) - جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين (العثمانية والصفوية - القاجارية)
1- مقدمة
ساد اعتقاد أن الصراع "الصفوي - العثماني" هو صراع "شيعي - سني" خالص نتيجة للتوقف عند المظاهر الموحية بهذا الاعتقاد. فحالات الانتقام التي رافقت الحروب والصراعات تجاه السكان الشيعة أو السنة، وموجات التهجير والاقتلاع المتبادلة، ثم شيوع فتاوي التكفير من الطرفين، وأشكال التعبئة المذهبية التي لجأ إليها الطرفين، شكلت جميعها مقدمات للاستدلال علي مذهبية الصراع. لكن ما ينبغي تفهمه في تقييم حجم العوامل الفاعلة في تاريخ الدول، هو أن التعبئة الفكرية والروحية اندرجت في العامل الأيدولوجي الذي وإن كان يؤدي في بعض الأحيان والظروف دوراً حاسماً في معركة أو انتفاضة أو ثورة، إلا أنه يبقي مجرد جزءاً من مشروع كبير يقوم علي عوامل ومقومات أخري حيث تحتل فيه العناصر الجغرافية والاقتصادية والاستراتيجية حيزاً أكبر. فالحروب لم تكن "سنية - شيعية" في أسبابها وأهدافها وإن توسلت هذة الحروب التعبئة المذهبية للتابعين والمقلدين من السنة والشيعة.
حاول نادر شاه حاكم إيران المنتسب إلي أسرة سنية أن يؤسس طريقة جديدة للتعايش مع العثمانيين في مجال المسألة "السنية - الشيعية" فقدم حلاً سلمياً يزيد من نفوذه المعنوي ويقدمه ممثلاً لوحدة الإسلام والمسلمين. كان الحل يقضي بأن يقبل العثمانيون الإمامية الإثني عشرية تحت اسم "الجعفرية" كأحد المذاهب الخمسة في الإسلام إلي جانب "الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية". وقدمت اقتراحات في هذا الشأن وهي أن يخصص السلطان العثماني للإمامة "الجعفرية" محراباً في مسجد مكة وأن يسمح لهم بايفاد أمير وقافلة حج عبر بلاد الشام. كان من الممكن لهذا الاقتراح أن يقدم حلاً للمسألة "السنية - الشيعية" لولا أن السلطان العثماني محمود الأول خاف من زيادة نفوذ نادر شاه في العراق عن طريق تقديم نفسه الزعيم المحقق لوحدة المسلمين ولذلك لم يتأخر جواب السلطان العثماني طويلاً بالرفض مرتكزاً علي فتوي دينية، فعادت المعارك بين الطرفين ثم سعياً بعدها إلي ابرام معاهدات للصلح.
استمرت الحروب "العثمانية - الصفوية" حوالي قرنين ونصف حدثت فيهم نهضة أوروبا الصناعية وتفوقت في الأسلحة والنظم والسفن وتأثر الإقتصاد الشرق أوسطي باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ودخول القارة الأمريكية كمورد جديد للطاقة والذهب والسلع والمال. ولما استنزفت القوتان مواردهما في التقاتل، أصبح اقتصادهما علي درجة من الضعف لا تنتظر انتعاشاً إلا من خلال الامتيازات الأجنبية وتوسع التجارة الغربية. كل هذا أسس لتشكل العلاقات اللامتكافئة بين الغرب والشرق، أي بين المركز الذي ستؤدي عليه الثورة الصناعية ونتائجها، وبين الأطراف التي أدت إليها سياسات الحروب والاستتباع والارتهان للإمتيازات الأجنبية. وانتهي الصراع بين الدولتين إلي صراع بين القوي العالمية للسيطرة علي مناطق الدولتين.
2- التجربة العثمانية
تنتظم الدولة العثمانية في سلسلة الدول التي قامت في تاريخ المسلمين علي قاعدة "التغلب" أو مفهوم "إمارة الاستيلاء" الذي أوجد ليها الماوردي تبريراً شرعياً تثبت فيما بعد مع ممارسة السلطان أو أمير الاستيلاء لمهمات الخليفة. فأصبحت السلطنة وفقاً لهذا المضمون مقبولة لدي بعض الفقهاء "كسلطة ضرورية" يحتملها الأمر الواقع والحاجة إلي وحدة الأمة وادارة المجتمع. ما أعطي لهذا الواقع اسباب ثباته في وعي جماعة المسلمين الفتوحات الكبري العثمانية التي كانت قد تُوّجت بفتح القسطنطينية التي امتنعت عن المسلمين لقرون، فكانت مصدراً لأمل في نهوض بعد فترات سقوط واحتلال وحروب صليبية.
كان ذلك هو الوجة الإيجابي للدولة العثمانية الذي وفر مناخاً شعبياً بالقبول واعطاء الشرعية، غير أن الوجة الآخر الذي استجد مع انكفائها نحو الملك الداخلي في دار الإسلام ومع تحولها إلي "دولة سوق وجباية" بحسب تعبير إبن خلدون في وصفه لتطور الدول دفعها للتحول سريعاً إلي دولة تتجاذبها عصبيات تتحالف وتتنافر في الأطراف ثم إلي سلطة جائرة أو مجموعة سلطات تتفاوت في درجات جورها من سلطان إلي سلطان ومن والي إلي والي ومن مكان إلي آخر. وكما فعلت الدولة العباسية في الاعتماد علي غير العرب من الفرس والأتراك، انتهجت الدولة العثمانية لحماية ملكها "الدِّوشيرمة" وهي الممارسة الذي بموجبها كانت الدولة العثمانية تجنّد أولاداً من عائلات مسيحية بعد سبيهم أو خطفهم ويتم تحويلهم بعد ذلك إلي الإسلام ويدربون كجنود" إنكشارية" لحماية السلطنة، نبعت هذه الممارسة من الرغبة بإنشاء طبقة عليا من المحاربين تكون موالية فقط للسلطان لا للنبلاء العثمانيين. لكن مع مرور الوقت أصابها مثل ما أصاب الدولة العباسية من تحكم الوزراء وكبار القادة في الحكم وخلع السلاطين وتوليتهم.
في هذة الأجواء ومن خلال الاصتدام بالسلطات المستبدة والجائرة ومن جراء صدمات العنف التي أدت للوعي بهول الكارثة والتخلف الزمني الذي تعيش فيه الأمة بدءاً من حملة نابليون، كان من الطبيعي أن تصدر أصوات الاعتراض علي هذا الواقع من خلال أشخاص نشأوا خارج هذة الأطر مثل رشيد رضا والجبرتي وعمر مكرم والطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة، واتخذت حركة الإصلاح في مصر طابعاً مستقلاً بسبب خصوصية مصر كولاية وخديوية ثم مستعمرة إنجليزية وبسبب استقلالية الأزهر عن المؤسسة الدينية العثمانية.
حاول جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الإصلاح من الداخل عن طريق تجنيب أهل السوء والتقرب من السلطان أو مهادنة الحاكم بمقدار يمكنهم به إحداث التغيير، فحاول الأفغاني مع السلطان عبد الحميد الثاني لكن الإخفاق الذي مني به في محاولة ترشيد السلطان ومحاربة فساد حاشيته ماثلت الفشل الذي مني به محمد عبده من خلال مهادنة الحاكم الإنجليزي كرومر. لأن في الحالتين لم يكن فساد المؤسسة وانحطاطها أمراً عابراَ أو مرتبطاً بالأشخاص بل كان هذا الإنحطاط جزءاً من سياسة سلطانية لم تجد مفراً لحل مأزقها السلطوي غير الإمعان في سياسة الإستبداد, كما كان جزءاً من آلية مصالح لم تجد منقذاً لها في ظل انعدام الإنتاجية إلا تثبيت مواقع الجاة والنفوذ لجمع الثروة. وكان في الأهم جزءاً من قواعد اجتماعية استباحت المجال الفقهي في الحلال والحرام عن طريق الحيلة والالتفاف علي الشرع وابتذلت المجال الروحاني الصوفي الذي كان يرمز للسلطنة إلي طقس شكلي فاقد لمضمونه. فقارب الاجتماع الديني أن يصبح وثنياً يتمحور حول السلطان يتوسل إليه عبر وسطاء الولاية ومشايخ الطرق وفقهاء السلطان.
فمن أبي الحسن الماوردي إلي رشيد رضا يرتسم خط متواصل من الفقه الإسلامي السني عبًّر عن واقعات تاريخية كبري غيرت مجري حياة المسلمين، فحاول الفقهاء البحث في الإسلام عما يبرر هذا الواقع لتستمر الحياة. فالماوردي برر قيام السلطنة القائمة علي التغلب في إطار الخلافة فوجدها في السلجوقية أو ما شابهها، ورشيد رضا برر سقوك سلطنة الجور العثمانية التي أضحت خلافة وتأييد أتاتورك ومن بعده عبد العزيز بن سعود ليبحث عن بديل لها حاملاً وعوداً وآمالاً في عصر الحضارة الغربية، فأقترح "حزب الإصلاح والتنمية" ومدرسة المجتهدين ممهداً لفكرة الإخوان المسلمين عند حسن البنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ( الفقيه والسلطان : جدلية الدين والسياسة فى تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية ) للدكتور وجيه كوثرانى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ( الفقيه والسلطان : جدلية الدين والسياسة فى تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية ) للدكتور وجيه كوثرانى .
Comments
Post a Comment