تاريخ العلاقة بين الدين والفلسفة - مقدمة كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال (محمد عابد الجابري)
مقدمة كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال (محمد عابد الجابري)
في البدء كانت السياسة: خالد بن يزيد بن معاوية كان أول من اشتغل بالعلوم القديمة منها الكيمياء والتنجيم والطب. جاء بها من الإسكندرية التي انتقلت إليها من كتب اليونان و الفلسفة الدينية الهرمسية المتصلة بالإله أوزوريس. ويقال أن الأمير الأموي كان يريد الحصول من خلال الكيمياء (التي كانت قضيتها وقتها تحويل المعادن الخسيسة مثل الرصاص والنحاس إلي معادن نفيسة مثل الذهب والفضة) علي المال اللازم لاستعادة الخلافة التي حرم منها (كان البيت الأموي أتفق بعد وفاة يزيد بن معاوية وترك معاوية بن يزيد (معاوية الثاني) للخلافة علي نقل الحكم لمروان بن الحكم ثم إلي خالد بن معاوية ثم إلي عمرو بن سعيد بن العاص، لكن مروان أخذ البيعة لإبنه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز). وحيث أن التنجيم والكيمياء والعلوم القديمة كانوا مرتبطين بصورة أو بأخري ويحتوا علي الاعتقاد بتأثير الكواكب والمجرات علي مصائر البشر فقد رفضوا بالكلية من الفقهاء والعوام.
مظهر آخر ارتبط بالعلوم القديمة عن طريق توظيف أيدولوجي لعناصر الثقافات القديمة من فرق الغلاة، وهم من غالوا في حق من ارتبطوا بهم من أئمة الشيعة، فوظفوا شظايا الفلسفة الدينية الهرمسية التي كانت تقول بالوسائط أي بعقول سماوية تتوسط بين الله والبشر وتتخذ من النجوم والكواكب والمجرات مطايا لها (الصابئة). هذة الوسائط تمنح أشخاص معينين قدرات خارقة فوق بشرية تمكنهم من الاتصال بالعالم العلوي والإتيان بالخوارق . فتم تكريس الزعامة الروحية بناء علي هذا حيث يسهل تعبئة الجمهور بها وأسقطوها علي أئمتهم ثم رفعوا الأئمة إلي درجات العصمة والنبوة والألوهية كواسطة بين الله والعباد. وبالطبع رفضت هذة الفرق من الفقهاء فضلاً علي غضب الأمويين عليهم سياسياً.
في العقود الأخيرة للدولة الأموية استغل العباسيون الشيعة للانتصار لثورتهم ومن ثم تنكروا لهم وقاتلوهم كما فعل الأمويون. فأختار بعض الشيعة نظرية المعارضة الثقافية ونشط الأئمة في الأمصار وبتوظيف الموروث الهرمسي العلمي والفلسفي ظهرت الدعوة الباطنية.
كان هناك إتجاه آخر في العصر الأموي لمعارضة عقلانية عملت علي اصلاح النظام من الداخل بدأت بالمرجئة وهم الذين رفضوا فكر الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة (والمقصود هنا الأمويين بالذات)، ثم القدرية وهم الذين ناهضوا إيدولوجيا الجبر (التي كرسها الأمويين لتبرير سلوكهم وأفعالهم تحت مسمي قضاء الله وقدره) فقالوا بقدره الإنسان علي خلق أفعاله وبالتالي تحميله مسئوليتها. تطورت القدرية بعد ذلك فلسفياً فخرجت منها المعتزلة.
في مقابل الشيعة والباطنية والجبرية والقدرية ظهر أهل السنة والجماعة وكان بين صفوفهم فقهاء كبار اختاروا أهون الضريين واتجهوا اتجاهاً محافظاً ففضلوا الإمام الأموي المستبد علي استمرار الفتن والثورات.
عندما قامت الثورة العباسية كان من بين العاملين فيها رجال من المعتزلة، أما المحافظون فبقي كثير منهم علي ولائهم للأمويين خصوصاً وقد هالهم العنف المفرط والواسع الذي مارسه العباسيون في أول عهدهم ضد بقايا الأمويين وأنصارهم. وهكذا تم تبادل الأدوار بين أحزاب الحكومة والمعارضة فصار المعتزلة، معارضي الأمس، مع الدولة وشكلوا واجهتها المثقفة التي واجهت المانوية والمسيحية. وتحول فقهاء السنة إلي ممارسة المعارضة من خلال الدين ودروسه. مع استتباب الأمر للعباسيين صار للدولة العباسية معارضتين خارجية (الشيعة-الباطنية) وداخلية (أهل السنة والجماعة متمسكين بالأحاديث وظاهر النصوص وعلي رأسهم أحمد بن حنبل).
لم يكن في وسع المعتزلة مواجهة الفلسفة الدينية الباطنية بمنطفهم البياني، فهم وإن نجحوا في إفحام الكثير من أتباع المانوية والمسيحية ومعاندة أهل السنة والجماعة (أهل الحديث والرواية) لم يستطيعوا هزم الغنوص الباطني (العرفان) الذي كان يتغذي علي الفلسفة اليونانية القديمة من إنسان وكون وممالك الأرض والسماء ونظام الدولة التي يحلمون بها. لم يكن في مقدور المعتزلة الدخول في معارك إيدولوجية مع الباطنية المتفلسفة، حيث تواجد عالم معتزلي بياني وعالم باطني عرفاني ولم تكن الجسور بين العالمين قد مدت بعد. ولم يكن هناك سلاحاً آخر قادر علي مواجهة الفلسفة الباطنية غير العقل/اللوغوس. كانت الفلسفة الباطنية تنتسب إلي أفكار فيثاغورث وأنباذقليدس وغيرهم من الفلاسفة ذوي الإتجاة الروحاني، وكان خصوم هؤلاء من عالم الفكر اليوناني نفسه هم أرسطوطاليس وجماعة المشائين. فكان لا مفر للخليفة المأمون ولجماعة المعتزلة من استدعاء أرسطو وفلسفته التي كانت قد حصرت الحسن في ثلاث مواضع فقط كنفي قاطع للعرفان (ما حسن في العقل - ما حسن في الشرع - ما حسن عند الجمهور). وقد فعل المأمون نفس ما فعلته سابقاً الكنيسة المسيحية لرد الهجمات الغنوصية عن طريق توظيف المنهج الأرسطي ومن ثم انتقلت الطريقة للعرب عن طريق النصاري السريان ثم إلي بيت الحكمة في بغداد.
بهدف مقاومة الإيدولوجيا الباطنية، الخصم اللدود لأهل السنة والمعتزلة، كان اللجوء إلي أرسطو جزءاً من ثقافة قوامها نشر المعرفة العلمية علي أكمل صورة عقلانية. ولكن علي غير المتوقع فإن قاعدة عدو عدوي صديقي لم تثبت هذة المرة؛ فأرسطو الذي استنجد به لم يتم الترحيب به من السنة والمعتزلة، بل وقفو الاثنين في خندق واحد ضد أرسطو وفلسفته كما وقفوا ضد الباطنية.
وقف المعتزلة ضد أرسطو وعلومه لأنه جاء ليحل محل منطقهم الذي بنوه بواسطة بناء الشاهد (العالم الحسي) بالشكل الذي يسمح لهم بالاستدلال منه علي الغائب (التصور الذي شيدوه عن الله "ذاته، صفاته، أفعاله"). فالمنطق عند المعتزلة هو أصولهم العقيدية التي يلتمسون لها السند من الشاهد (كل ما هو مشاهد في حياة الإنسان بما في ذلك اللغة والمجتمع والطبيعة)، أما المنطق عند أرسطو فهو معطيات الطبيعة التي تفرق بين الصورة والشيء، ومن أجل تبرير قوانينها ونظامها يفترض علماً إلهياً علي قمته المحرك الأول الذي جعله الأصل في الحركة في العالم الطبيعي. ووقف أهل السنة ضد منطق أرسطو وعلومه لأنه جعل من العقل المرجعية الوحيدة بينما هم يعتمدون النقل والرواية مع استخدام العقل كوسيلة (أهل المعتزلة قالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك فقدموا العقل حاكماً علي النص، أما أهل السنة فاستخدموا العقل كوسيلة لفهم النص). أما الباطنيين فقد سلكوا إزاء أرسطو وما ترجم من علومه موقفاً براغماتياً فأخذوا ما يصلح للتوظيف في فلسفتهم الدينية وتركوا الباقي.
لعبت السياسة مرة أخري دورها في توزيع الأوراق المذهبية والإيدولوجية فأعادت ترتيبهم. فقد انقلب الخليفة العباسي المتوكل علي المعتزلة وانحاز لأهل السنة والجماعة لأسباب سياسية داخلية في المقام الأول، فقد أراد تحقيق مصالحة تاريخية ولكن انتهازية مع قوي المعارضة السنية الحنبلية التي كانت تهيمن علي الشارع وذلك أملاً في التخلص من نفوذ القواد العسكريين الأتراك أو علي الأقل موازنة نفوذهم بدعم أهل السنة، فقد قوي نفوذ العسكريين الأتراك لدرجة جعلت المتوكل رهينة في أيديهم وحاولوا التخلص منه مراراً باغتياله حتي نجحوا في ذلك بالتفاق مع ابنه المنتصر. حل أهل السنة محل المعتزلة فضيقوا عليهم وتراجع حضورهم علي المستوي الرسمي والثقافي وبقي أهل السنة وحدهم في الميدان واحتلوا الموقع الإيدولوجي للدولة. وبما أن النقل والرواية لا يكفيان وحدهم لبناء مذهب متماسك وإيدولوجيا تستطيع الدولة استخدامها للمواجهة، فقد أضطر أهل السنة الي تبني منهج المعتزلة (ولو جزئيا) خصوصاً مع انسحاب أبي الحسن الأشعري من صفوف المعتزلة وانضمامه لأهل السنة ليؤسس مذهباً وسطاً يكتسح المذاهب الأخري ويصير العقيدة الرسمية للدولة. وأما الفلاسفة فلم تعد الدولة المركزية راعية لهم كما كان شأن الكندي زمن المأمون فلجؤوا إلي الحلم الفلسفي والتصوف العقلي الذي دشنه الفارابي ومن بعده ابن سينا الذي اقترب من عرفان الباطنية الإسماعيلية وأصبحت الفلسفة الحليف الموضوعي للتيارات الباطنية.
وهكذا تحددت جوانب الصراع واتضحت معالمه في الدولة المسلمة: الخلافة العباسية ومذهبعا الأشعري في جهة والخلافة الفاطمية ومذهبها الإسماعيلي في جهة أخري.